فصل: قال ابن عاشور في الآيتين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور في الآيتين:

{وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ}.
هذه الآية أيضًا نظير ما في سورة البقرة إلاّ أنه عبر في هذه الآية بقوله: {اسكنوا} وفي سورة البقرة (58) بقوله: {ادخلوا} لأن القولين قيلا لهم، أي قيل لهم: ادخلوا واسكنوها ففُرّق ذلك على القصتين على عادة القرآن في تغيير أسلوب القصص استجدادًا لنشاط السامع.
وكذلك اختلاف التعبير في قوله هنا: {وكلوا} وقوله في سورة البقرة (58) {فكلوا} فإنه قد قيل لهم بما يرادف فاء التعقيب، كما جاء في سورة البقرة، لأن التعقيب معنى زائِد على مطلق الجمع الذي تفيده واو العطف، واقتصر هنا على حكاية أنه قيل لهم، وكانت آية البقرة أولى بحكاية ما دلت عليه فاء التعقيب، لأن آية البقرة سيقت مساق التوبيخ فناسبها ما هو أدل على المنة، وهو تعجيل الانتفاع بخيرات القرية، وآيات الأعراف سيقت لمجرد العبرة بقصة بني إسرائيل.
ولأجل هذا الاختلاف مُيزت آية البقرة بإعادة الموصول وصلته في قوله: {فأنزلنا على الذين ظلموا رجزًا} [البقرة: 59] وعوض عنه هنا بضمير الذين ظلموا، لأن القصد في آية البقرة بيان سبب إنزال العذاب عليهم مرتين أشير إلى أولاهما بما يومىء إليه الموصول من علة الحكم، وإلى الثانية بحرف السببية، واقتصر هنا على الثاني.
وقد وقع في سورة البقرة (59) لفظ {فأنزلنا} ووقع هنا لفظ {فأرسلنا} ولما قيد كلاهما بقوله: {من السماء} كان مفادهما واحدًا، فالاختلاف لمجرد التفنن بين القصتين.
وعبر هنا {بما كانوا يظلمون} وفي البقرة (59) {بما كانوا يفسقون} لأنه لما اقتضى الحال في القصتين تأكيدَ وصفهم بالظلم وأدي ذلك في البقرة (59) بقوله: {فأنزلنا على الذين ظلموا} استثقلت إعادة لفظ الظلم هنالك ثالثة، فعُدل عنه إلى ما يفيد مفاده، وهو الفسق، وهو أيضًا أعم، فهو أنسب بتذييل التوبيخ، وجيء هنا بلفظ {يظلمون} لئلا يفوت تسجيل الظلم عليهم مرة ثالثة، فكان تذييل آية البقرة أنسب بالتغليط في ذمهم، لأن مقام التوبيخ يقتضيه.
ووقع في هذه الآية: {فبدل الذين ظلموا منهم} ولم يقع لفظ {منهم} في سورة البقرة، ووجه زيادتها هنا التصريحُ بأن تبديل القول لم يصدر من جميعهم، وأجمل ذلك في سورة البقرة لأن آية البقرة لما سيقت مساق التوبيخ ناسب إرهابهم بما يوهم أن الذين فعلوا ذلك هم جميع القوم، لأن تبعات بعض القبيلة تحمل على جماعتها.
وقدم في سورة البقرة (58) قوله: {وادخلوا الباب سجدًا} على قوله: {وقولوا حطة} [البقرة: 58] وعُكس هنا وهو اختلاف في الإخبار لمجرد التفنن، فإن كلا القولين واقع قُدّم أو أُخّر.
وذكر في البقرة (58): {وكلوا منها حيث شئتم رَغَدًا} ولم يذكر وصف رغدًا هنا، وإنما حكي في سورة البقرة، لأن زيادة المنة أدخل في تقوية التوبيخ.
وجملة {سنزيد المحسنين} مستأنفة استئنافًا بيانيًا لأن قوله: {تُغفرْ لكم} في مقام الامتنان بإعطاء نعم كثيرة مما يثير سؤال سائِل يقول: وهل الغفران هو قصارىَ جزائِهم؟ فأجيب بأن بعده زيادة الأجر على الإحسان، أي على الامتثال.
وفي نظير هذه الآية من سورة البقرة (58) ذكرت جملة {وسنزيد المحسنين} معطوفة بالواو على تقدير: قلنا لهم ذلك وقلنا لهم سنزيد المحسنين، فالواو هنالك لحكاية الأقوال، فهي من الحكاية لا من المحكي أي قلنا وقلنا سنزيد.
وقرأ نافع، وأبو جعفر، ويعقوب {تُغفر} بمثناة فوقية مبنيًا للمجهول، و{خطيئاتُكم} بصيغة جمع السلامة للمؤنث وقرأه ابن كثير، وعاصم، وحمزة، والكسائي، وخلف: {نَغْفر} بالنون مبنيًا للفاعل و{خطيئاتِكم} بصيغة جمع المؤنث السالم أيضًا وقرأه أبو عمرو {نغفر} بالنون و{خطاياكم} بصيغة جمع التكسير، مثل آية البقرة، وقرأ ابن عامر: {تُغفر} بالفوقية وخطيئتكم بالإفراد.
والاختلاف بينها وبين آية البقرة في قراءة نافع ومن وافقه: تفنن في حكاية القصة. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
{فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ (162)}.
جاء في التفسير أنهم زادوا حرفًا في الكلمة التي قيلت لهم فقالوا: حنطة بدل {حِطَّة} فلقوا من البلاء ما لقوا تعريفًا أن الزيادةَ في الدين، والابتداعَ في الشرع عظيمُ الخَطَرَ، ومجاوزةُ حدِّ الأمر شديدُ الضرر.
ويقال إذا كان تغييرُ كلمةٍ هي عبارة عن التوبة يوجب كل ذلك العذاب- فما الظنُّ بتغيير ما هو خبرٌ عن صفات المعبود؟
ويقال إنَّ القولَ أَنْقَصُ من العمل بكلِّ وجهٍ- فإذا كان التغيير في القول يُوجِبُ كلَّ هذا.. فكيف بالتبديل والتغيير في الفعل؟. اهـ.

.تفسير الآية رقم (163):

قوله تعالى: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (163)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما فرغ من هتك أستارهم فيما عملوه أيام موسى عليه السلام وما يليها، أتبعه خزيًا آخر أشد مما قبله، كان بعد ذلك بمدة لا يعلمه أحد إلا من جهتهم أو من الله، وإذا انتفى الأول ثبت الثاني، فقال: {وسئلهم} أي بني إسرائيل مبكتًا لهم ومقررًا {عن القرية} أي البلد الجامع {التي كانت حاضرة البحر} أي على شاطئه وهي أيلة، ولعله عبر بالسؤال، ولم يقل: وإذ تعدو القرية التي- إلى آخره، ونحو ذلك، لأن كراهتهم للإطلاع على هذه الفضيحة أشد مما مضى، وهي دليل على الصرف والصدق.
ولما كان السؤال عن خبر أهل القرية قال مبدلًا بدل اشتمال من القرية {إذ} أي حين {يعدون} أي يجوزون الحد الذي أمرهم الله به {في السبت إذ} أي العدو حين {تأتيهم} وزاد في التبكيت بالإشارة إلى المسارعة في الكفر بالإضافة في قوله: {حيتانهم} إيماء إلى أنها مخلوقة لهم، فلو صبروا نالوها وهم مطيعون، كما في حديث جابر- رضي الله عنهم- رفعه «بين العبد وبين رزقه حجاب، فإن صبر خرج إليه، وإلا هتك الحجاب ولم ينل إلا ما قدر له» {يوم سبتهم} أي الذي يعظمونه بترك الاشتغال فيه بشيء غير العبادة {شرعًا} أي قريبة مشرفة لهم ظاهرة على وجه الماء بكثرة، جمع شارعة وشارع أي دان {ويوم لا يسبتون} أي لا يكون سبت، ولعله عبربهذا إشارة إلى أنهم لو عظموا الأحد على أنه سبت جاءتهم فيه، وهو من: سبتت اليهود- إذا عظمت سبتها {لا تأتيهم} أي ابتلاء من الله لهم، ولو أنهم صبروا أزال الله هذه العادة فأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم.
ولما كان هذا بلاء عظيمًا، قال مجيبًا لسؤال من كأنه قال لشدة ما بهره من هذا الأمر: هل وقع مثل هذا؟ مشيرًا إلى أنه وقع، ولم يكتف به، بل وقع لهم أمثاله لإظهار ما في عالم الغيب منهم إلى عالم الشهادة: {كذلك} أي مثل هذا البلاء العظيم {نبلوهم} أي نجدد اختبارهم كل قليل {بما} أي سبب ما {كانوا} أي جبلة وطبعًا {يفسقون} أي يجددون في علمنا من الفسق، وهو الخروج مما هو أهل للتوطن من الطاعات. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ}.
اعلم أن هذه القصة أيضًا مذكورة في سورة البقرة.
وفيها مسائل:
المسألة الأولى:
قوله تعالى: {واسألهم} المقصود تعرف هذه القصة من قبلهم، لأن هذه القصة قد صارت معلومة للرسول من قبل الله تعالى، وإنما المقصود من ذكر هذا السؤال أحد أشياء: الأول: أن المقصود من ذكر هذا السؤال تقرير أنهم كانوا قد أقدموا على هذا الذنب القبيح والمعصية الفاحشة تنبيهًا لهم على أن إصرارهم على الكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم وبمعجزاته ليس شيئًا حدث في هذا الزمان، بل هذا الكفر والإصرار كان حاصلًا في أسلافهم من الزمان القديم.
والفائدة الثانية: أن الإنسان قد يقول لغيره هل هذا الأمر كذا وكذا؟ ليعرف بذلك أنه محيط بتلك الواقعة، وغير ذاهل عن دقائقها، ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم رجلًا أميًا لم يتعلم علمًا، ولم يطالع كتابًا، ثم أنه يذكر هذه القصص على وجهها من غير تفاوت ولا زيادة ولا نقصان، كان ذلك جاريًا مجرى المعجز.
المسألة الثانية:
الأكثرون على أن تلك القرية أيلة.
وقيل: مدين.
وقيل طبرية، والعرب تسمى المدينة قرية، وعن أبي عمرو بن العلاء ما رأيت قرويين أفصح من الحسن والحجاج يعني رجلين من أهل المدن، وقوله: {كَانَتْ حَاضِرَةَ البحر} يعني قريبة من البحر وبقربه وعلى شاطئه والحضور نقيض الغيبة كقوله تعالى: {ذلك لِمَنْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِى المسجد الحرام} [البقرة: 196] وقوله: {إِذْ يَعْدُونَ في السبت} يعني يجاوزون حد الله فيه، وهو اصطيادهم يوم السبت وقد نهوا عنه، وقرئ {يَعْدُونَ} بمعنى يعتدون أدغمت التاء في الدال ونقلت حركتها إلى العين و{يَعْدُونَ} من الأعداد وكانوا يعدون آلات الصيد يوم السبت وهم مأمورون بأن لا يشتغلوا فيه بغير العبادة و{السبت} مصدر سبتت اليهود إذا عظمت سبتها فقوله: {إِذْ يَعْدُونَ في السبت} معناه يعدون في تعظيم هذا اليوم، وكذلك قوله: {يَوْمَ سَبْتِهِمْ} معناه: يوم تعظيمهم أمر السبت، ويدل عليه قوله: {وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ} ويؤكده أيضًا قراءة عمر بن عبد العزيز {يوم أسباتهم} وقرئ {لاَ يَسْبِتُونَ} بضم الباء، وقرأ على رضي الله عنه {لاَ يَسْبِتُونَ} بضم الياء من أسبتوا، وعن الحسن {لاَ يَسْبِتُونَ} على البناء للمفعول، وقوله: {إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ} نصب بقوله: {يَعْدُونَ} والمعنى: سلهم إذ عدوا في وقت الإتيان، وقوله: {يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا} أي ظاهرة على الماء وشرع جمع شارع وشارعة وكل شيء دان من شيء فهو شارع، ودار شارعة أي دنت من الطريق، ونجوم شارعة أي دنت من المغيب.
وعلى هذا فالحيتان كانت تدنو من القرية بحيث يمكنهم صيدها، قال ابن عباس ومجاهد: إن اليهود أمروا باليوم الذي أمرتم به، يوم الجمعة، فتركوه واختاروا السبت فابتلاهم الله به وحرم عليهم الصيد فيه وأمروا بتعظيمه، فإذا كان يوم السبت شرعت لهم الحيتان ينظرون إليها في البحر.
فإذا انقضى السبت ذهبت وما تعود إلا في السبت المقبل.
وذلك بلاء ابتلاهم الله به، فذلك معنى قوله: {وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ} وقوله: {كذلك نَبْلُوهُم} أي مثل ذلك البلاء الشديد نبلوهم بسبب فسقهم، وذلك يدل على أن من أطاع الله تعالى خفف الله عنه أحوال الدنيا والآخرة ومن عصاه ابتلاه بأنواع البلاء والمحن، واحتج أصحابنا بهذه الآية على أنه تعالى لا يجب عليه رعاية الصلاح والأصلح لا في الدين ولا في الدنيا وذلك لأنه تعالى علم أن تكثير الحيتان يوم السبت ربما يحملهم على المعصية والكفر، فلو وجب عليه رعاية الصلاح والأصلح، لوجب أن لا يكثر هذه الحيتان في ذلك اليوم صونًا لهم عن ذل الكفر والمعصية.
فلما فعل ذلك ولم يبال بكفرهم ومعصيتهم علمنا أن رعاية الصلاح والأصلح غير واجبة على الله تعالى. اهـ.